جدل العلمنة والأسلمة في المجتمعات الإسلامية المعاصرة*
د. محمد حلمي عبد الوهاب
على عكس بديهيات العالم، بدلا من أن تؤدي كثرة النقاش حول قضية ما إلى المساهمة في ثرائها ومن ثم الوصول إلى حل بشأنها؛ لا يزيد النقاش المحتدم في عالمنا العربيّ حول الدينيّ والسياسيّ إلا في ازدياد ضبابية المواقف والقضايا وبالتالي عدم إمكانية حسمها، على الأقل في الوقت الراهن.
غير أنَّ لكلِّ زمان "وقته الراهن" ولكل جيل زمنه الخاص والنتيجة الطبيعية لتتابع الأوقات "الراهنة" هي البقاء "محلك سر"، كما يقول المصريون، بحيث تتأبد "الراهنيَّة" ويتأبد معها الإشكالُ موضعَ الخلافِ أو التساؤل!!.
وربما يحِّقُ للقارئ أن يتساءل: إذن ما الحل الذي بإمكانك أن تقدمه هنا؟ وما الجديد الذي يمكن أن يحمله مقالكَ في ضوء تقديم استفزازيٍّ كهذا؟!. واقع الأمر أنني لن أسعى إلى إعمال مبدأ المراوغة الفكرية والإجابة عن تساؤل القارئ بطرح سؤال آخر. لكني أعتقد أنه من دون مصارحة الذات والحديث عن القضية محل النقاش بوضوح شديد والتنفيس عمَّا يعتمِلُ في نفس الكاتب والقارئ معا فلا إمكانية لحل مثل هذه القضايا.
وهنا سأضطر آسفا للرجوع مرة أخرى لسياق الأسئلة الشائعة وعلى رأسها: لماذا نجحت اليابانُ وفشلت مصر (بطبيعة الحال ليس في مجال كرة القدم!!)؟! ولماذا نجحت أيضا المجتمعات الأوربية إبان عصر النهضة في الانتقال إلى نمط العلمنة فيما فشلنا نحن؟ ولماذا كل هذا الوقت والجهد الذي يبدو للبعض أنه لا طائل من ورائه في الحديث عن الإسلام والعلمنة؟ أليس من المريح القول بأننا شعوب إسلامية وكفى!، وأنه لا حاجة بنا إلى التعويل على أية أنظمة أخرى؟!.
لنعكس وجهة السؤال الأخير كي ما تتضح الصورة أكثر فأكثر: وما الذي أفضت إليه أفكار العقلانية والتنوير والعلمانية التي أخذ بها البعض في مجتمعاتنا العربيّة الإسلاميّة؟!، وهو ما يجرنا إلى تساؤل آخر: هل المشكلة تكمن في بنية مجتمعاتنا أم في الأنساق الفكرية أولا، السياسية ثانيا، التي تتبعها الدولة في تسيير شؤونها؟ ولماذا يُنظر إلى الدين لدى البعض باعتباره عائقا يحول دون إحراز التقدم فيما على العكس من ذلك تماما ينظر إليه الآخرون باعتباره قوة دافعة للإنجاز والعمل؟!.
سأتوقف عن إثارة المزيد من الأسئلة، ربما لأنَّها بدورها لا تنتهي، محاولا إلقاء الضوء على بعض جوانب المشكلة. ولنبدأ بتحليل مأزق "العلمنة" في عالمنا العربيّ مقارنة بعصر النهضة الأوربي لنتعرف على السياقات والتمايزات وأوجه الاتفاق والاختلاف ما بين التجربتين التاريخيتين.
غير أنه يتعين علينا أن نوضح بداية أنَّ تمايز الأوضاع في عالمنا العربيّ عن نظيره الأوربيّ لا يصِح أنْ يُتخذ ذريعة، كما يروقُ للبعض، لرفض العِلمانية كليَّة، أو التذرع بما يسمى الخصوصيّة/ "الاستثنائيّة العربيَّة" لتفسير تعثر حدوث التحول الديمقراطي بدول المنطقة. ففي الحالتين معا نحن إزاء التفافٍ على موضع الإشكال وهروبٍ من مواجهة الذات ليبقى التساؤل كما هو: لماذا فشلنا وتقدم غيرنا؟!.
وفي الواقع، لا يزالُ البعض يتوهم أنَّ الدول الأوربيَّة التي أنجزت في مراحلَ تاريخيّة معينة فصلا وظيفيا ما بين المؤسسات السياسيّة والدينيّة، خاصة ما يتعلقُ بوضعيّة الرموز الدينيّة في الفضاء الرسميّ وما ارتبط بذلك من صراع دامٍّ توزّع بين منطق الاستبعاد الكامل (الحالة الفرنسية) أو محاولة البحث عن حلول وسطى (الحالة الألمانية)؛ يُخيَّلُ للبعض أنَّ هذه الدول لا تدور في رحاها اليوم نقاشات ثرية حول وضعية الدين في المجتمع المعاصر، أو بالأحرى استمرارية الانشغال بالظاهرة الدينية ككل!
فعلى العكس من ذلك تماما، وعلى الرغم من الطابع العلماني للمجال السياسيّ في الدول الأوربيّة الحديثة، لا تزال هناك مساحة من التداخل بين الدينيّ والسياسيّ في الخارطة الثقافية للمجتمعات الأوربيّة وهو ما يبدو واضحا من خلال التشكيلات الحزبيّة ذات الطابع المسيحي، وأيضا من خلال تعاظم الدور العام والوزن النسبي للمؤسسة الدينيّة وخطابها المجتمعي، كما في حالتي إيطاليا وألمانيا على وجه الخصوص.
ومع الأخذ في الحسبان تنوع الخبرات التاريخيّة في العالمين العربيّ والغربيّ، إلا أنَّ الفارق الرئيسي بين التجربتين ربما يتعلق بتوافر أو غياب آلياتٍ مؤسسيّة مقبولةٍ مجتمعيا تساهم في تطوير صياغات توافقية للعلاقة الحاكمة بين كل من: الدّين والمجتمع والسيّاسة.
غير أنَّ محاولات العلمنة التي تمت في إطار ما يسمى بالنهضة العربيّة الحديثة تختلف في الواقع اختلافا كبيرا عن منظومة التحولات الشاملة التي تمت في أوربا وعلى مستوياتٍ عدة من بينها: أنّ علمنة المجتمعات الأوربيّة كانت جزءا من عمليات تحول شامل حيث لم يقتصر الأمر على تغيير بُنى العلاقة القائمة ما بين الكنيسة والدولة فقط، وإنما شملت أيضا وضع حدّ قانونيّ لحق الملوك في السيادة وبالتالي التحول إلى الجمهورية وانتقال السلطة إلى الشعب (حالتي فرنسا وأميركا) أو إلى البرلمان (حالة بريطانيا).
الملمح الثاني من ملامح اختلاف الخبرتين التاريخيتين يتمثل في طول حقبةِ عمليات التحوّل الشاملة بأوربا مقارنة بالعالم العربيّ حيث امتد النضال الإصلاحيُّ من القرن الثالث عشر حتى قيام الثورة الفرنسيّة في القرن الثامن عشر الميلاديّ، أي قرابة خمسة قرون متتالية بدأت بظهور حركة الإصلاح الدينيّ، مرورا بظهور الفكر السياسيّ العقلانيّ التجريبيّ، وليس انتهاءً بظهور موجات الحداثة والتنوير المعاصرة، فيما لم تتعدَّ الخبرة العربيَّة المعاصرة حدود قرنين من الزمان.
أضف إلى ذلك أيضا أنَّ المؤسسة الدينيّة الغربيّة قد تفاعلت مع التحولات المجتمعية بصورة مباشرة فقامت بعلمنة رؤاها الدينيّة وغيّرت من هياكلها التنظيميّة في ضوء هذه العلمنة. أمّا في التجربة العربيّة الإسلاميّة، فلا يزال الكثيرون داخل المؤسسات الدينيّة وخارجها يحاجونَ ضد القول بوجود ما يسمى بطبقة "رجال الدَّين" في الإسلام، فضلا عن الارتباط الوثيق بينهم وبين كل من القداسة والأنظمة السياسيّة.
وفي ضوء هذا الملمح الأخير يتعذر القول بإمكانيّة علمنة المؤسسة الدينيّة، مثلما يتعذر على رجال الدّين الإقرار بوجود قواسم مشتركة، أو على الأقل مساحات تقريب، بين الإسلام والعِلمانيّة. لكن ماذا عن اجتهادات المصلحين والمجددّين؟ وما حقيقة موقفهم من إشكالية السياسة والدّين؟ وهل من الممكن أن تتضمن رؤاهم الإصلاحيّة حلا لمعضلة الدّين والدّولة، والتي أعيت الإسلاميين والعِلمانيين معا؟ .. تلك أسئلة تبقى قائمة.
*منبر الحرية: 27 فيفري 2009[right]