seddik hammou
عدد المساهمات : 211 تاريخ التسجيل : 16/11/2012 الموقع : falsafaoran.ahladalil.com
| موضوع: العمل و العدالة الإثنين ديسمبر 03, 2012 7:30 pm | |
| ابراهيم قمودي
...العدالة هي مسألة راهنة ترتبط بمركزية العمل كقيمة مرجعية تشترط تحقيق مشروع المساواة وخاصة المساواة الاجتماعية في ظروف الوجود الفردي والاجتماعي. ولا نستطيع أن ننكر اليوم أن العمل يمثل سجلاّ محدّدا للعدالة إذ يمثل أحد شروط مصداقية المواطنة وهو ما تشهد عليه وضعية البطالة التي تؤكّد هذا الترابط بين العمل والعدالة. ورغم أن مثل هذا الإقرار يصدم المواطن الأثيني المقتنع بغربة المجال السياسي بما هو مجال الحرية والمواطنة، على مجال العمل كفضاء مرتبط بالحاجة البيولوجية المبتذلة ـ إذ ليس هناك تطابق في الفكر اليوناني القديم بين نظام الروح ونظام الحياة بما أنّ إجبار العمل يمنع من تحقيق المواطنة بالكيفية التي تجعل الحدود بين العملة والذين لا يعلمون هي نفس الحدود بين المواطن والعبد ـ فإن الأمر مختلف تماما اليوم، إذ يمثل العمل شرط الولوج إلى المواطنة عبر المساواة الفعلية، فنحن نشهد قلبا كليا في النظر إلى العمل فمن العمل كعلامة إقصاء للمواطنة إلى العمل كشرط للمواطنة. غير أنّ مسألة العمل والعدالة تطرح مفارقة، فمن جهة يتأسس العمل المأجور على المرؤوسية والإمتثال و لكنه يتقدّم من جهة ثانية كأساس للحرية الواقعية والعدالة الفعلية، وهذا يعني أن الزوج عمل ـ عدالة هو زوج حديث العهد ومع ذلك يتمتع بمشروعية غير قابلة للنقاش، ناهيك أن حق العمل هو موضوع المادة الثالثة والعشرون من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وهو حق مشروع في كلّ الدول المتقدمة. ولكنّ هدا الزوج يبقى موضوعا للنقاش، موضوعا محفوفا باللايقين الناتج عن الشك المتواصل الذي يحف بمفهوم العمل وبمفهوم العدالة. فالعمل يُفهم هنا بعيدا عن المطارحات الفلسفية، فلا يتعلق الأمر بالعمل من جهة أنه يمثل كلّ أشكال النشاط المشكل للمادة أو الأفكار، ولكن العمل باعتباره إجبارا وضرورة، العمل باعتباره شغل، أي ترجمة النشاط الشاق في وضعيات وأدوار اجتماعية بما في ذلك توزيع المكافآت الفعلية والرمزية التي ترافق نشاط عمل معترفا به كنافع اجتماعيا مثل الأجر، الترقيات، الامتيازات التي تسند لشغل دون آخر... أما العدالة فإنها تحيل عند أرسطو، إلى دلالتين، دلالة عامة ودلالة خاصة، ففي الدلالة العامة تشير العدالة إلى علاقة الفرد بالمؤسسات الاجتماعية وتكون في هذا المستوى مرادفة للفضيلة بمعنى الامتثال للقوانين، فالإنسان الفاضل هو الذي يعمل وفق القانون بشرط أن يكون هذا القانون ذاته فاضلا. والعدالة بالمعنى الخاص تدلّ على ما ينبغي أن يكون عليه سلوك الفرد في تعامله مع بقية أفراد المجتمع. وهذا يعني أن تناول "أرسطو" لمسألة العدالة يرتبط عضويا بالمسألة الأخلاقية، ثم إن العدالة بالمعنى الخاص تقتضي حسب أرسطو أن يقنع المرء بقسمته ولا يطمع بما في أيدي الناس إذ تعني الاعتدال. ويميز أرسطو في العدالة الخاصة بين نوعين:
· العدالة التوزيعية: وتشمل توزيع الخيرات والشرف والمناصب وأي شيء يمكن توزيعه على أفراد المجتمع وتقتضي هذه العدالة أن يتمّ توزيع الخيرات بما يتناسب مع ما يستحقه كلّ طرف، وبالتناسب مع معايير الاستحقاق بحسب النظم الاجتماعية. · العدالة التعويضية: وتتمثل وظيفتها في إعادة الحق المنتهك إلى أصحابه في مجال التعاملات بين الناس. ويميّز "أرسطو" في هذا النوع من العدالة بين نوعين: العدالة المتعلقة بالمعاملات الإرادية بين الأفراد كالبيع والشراء والاقتراض... والعدالة المتعلقة بالمعاملات غير الإرادية، السرية منها والعنيفة كالسرقة أو إهانة الغير و مضايقته...ففي مجال التعاملات الإرادية يكون هدف القاضي هو التعويض لا العقاب، وأما في مجال السلوك الإجرامي فإن الهدف يكون العقاب وتصحيح الضرر وإعادة الاعتبار للمعتدَى عليه. و يجب أن نلاحظ أن مفهوم العدالة ظلّ موضوع اختلافات عديدة بين المفكرين والفلاسفة. اختلافات يمكن إرجاعها إلى صنفين عامين أحدها اعتبار العدالة كمساواة وهذه العدالة غير منصفة لأنها لا تأخذ بعين الاعتبار جدارة أو أحقية بعض الأفراد. وثانيها اعتبار العدالة كإنصاف و هذه العدالة لا تقتضي المساواة.
و لأن العدالة كمساواة هي أمر لا يمكن تحقيقه، و فشل النظام الاشتراكي في المعسكرات الشرقية يبرهن على ذلك، ينادي "راولس" John Rawls بتحقيق العدالة كإنصاف، وذلك يعني بالنسبة إليه تصحيح اللاتساوي بين الأفراد، إذ تتأس نظرية العدالة عند "راولس" على توزيع منصف للخيرات، لذلك يرفض "راولس" تصوّر النفعيين للعدالة، ذلك أن العدالة عند "هيوم" و"ميل" تتمثل في خير أكبر عدد ممكن من الناس في حين يرفض "راولس" أن يكون تأويج المنفعة أساسا للعدالة، إذ يرفض التضحية بالحرية أو الإنصاف باسم النجاعة وإشباع الحاجات. لذلك يشترط حضور العدالة منذ البنية الأساسية للمجتمع أي حضور العدالة في المؤسسات باعتبارها النسق العمومي للقوانين، خاصة وأنّ المؤسسات الاجتماعية تخدم مصالح بعض الأفراد على حساب آخرين، هذا يعني أن تصوّر "راولس" للعدالة يقدم لنا مظهرا توزيعي مؤسساتي ولذلك يؤسس العدالة كإنصاف بالنسبة لمجموع الأفراد المتعاقدين بهدف الحدّ من اللامساواة، وهذا الأساس التعاقدي للعدالة يمكّن الأفراد من تشريع القوانين بطريقة ذاتية عوض أن يتقبلوها من الخارج، وهكذا يسهل تطبيق القانون دون الحاجة إلى القوة. وهذا يعني أنّ العدالة كإنصاف عند راولس تتحقق بهذه الشروط وتقوم على مبدأين أساسيين، المبدأ الأوّل هو مبدأ الحرية ويؤمّن لكلّ فرد الحقّ المتساوي في نسق الحريات الأساسية مثل الحق في الانتخاب وحق الحصول على العمل، حرية التعبير، حرية المعتقد... وهذا المبدأ الأوّل يتضمّن كون الفرد الذي يولد بامتيازات له الحق في أن يؤوّج هذه الامتيازات ويكون حرّا في فعل ما يريد لتأويج هذه الامتيازات بشرط ألاّ يمسّ بحرية الآخرين. أما المبدأ الثاني فيقرّ بأنّ اللاتساوي الاجتماعي ليس عيبا في حدّ ذاته، وبالتالي لا يجب أن نسعى إلى القضاء على كلّ لا تساوي اجتماعي لأن بعض اللاتساويات محبذة ومفيدة، مثل اللاتساوي في دفع الضرائب ففي هذه الحالة يجب أن يكون هناك لا تساوي حتى نقلص الفوارق بين الناس، ثمّ إن اللاتساوي يجب أن يوجد عندما يتعلق الأمر بالاستحقاق الشخصي وفي هذا المستوى مثلا يدعم "راولس" الحصول على الوظائف عبر المناظرات المفتوحة. وكلّ هذه القيم الاجتماعية يجب توزيعها بطريقة متساوية إلاّ إذا كان التوزيع اللاعادل خادما لكل الأفراد وهذا يعني أن العدالة حسب "راولس" ليست إلا فرضية، فالعدالة لا تمثل قيمة جوهرية مثلما هو شأن الحرية والمساواة والاحترام، بل ليست إلا تعبيرا عن علاقة توازن بين القيم والمبادئ التي يضعها مجتمع ما كمراجع وبين واقع الممارسات الفردية والجماعية في هذا المجتمع. هذا يعني أن العدالة تمثل أداة قيس نرجع إليها في استعمالات مختلفة لاختلاف القيم والاعتراف بها وهو ما جعل "ميخائيل فالزار" يعتبر أن العدالة متعددة في تطبيقاتها إلى درجة تجعلنا نتحدّث عن "مساواة مركبة" باعتبارها معيارا نحكم به على المجتمعات الخيّرة. ولذلك احتلت مسألة العدالة مكانة مركزية في الفلسفة السياسية، يقول راولس : "إن العدالة هي أوّل فضيلة للمؤسسات الاجتماعية تماما مثلما أنّ الحقيقة هي أوّل فضيلة لأنساق الفكر" وهذا يعني أنه إذا كنا ندحض نظرية ما عندما نتبين خطأها فإنه علينا كذلك أن نراجع بل ونقوض المؤسسات والقوانين غير العادلة.
غير أن هذه التحاليل سواء التي قدمها "أرسطو" أو "راولس" أو غيرهما حول العدالة لا تعطينا تحديدا نهائيا للعدالة، وقد يجدر بنا أن نحدّد العدالة بطريقة سالبة حتى يتوضّح لنا الترابط بين العدالة والعمل، فما اللاعدالة في أفق العمل؟
يمكن أن نجيب كالتالي، إنه من اللاعدل أن لا يعمل الإنسان في حين أنه قادر على العمل، وبالتوازي إنه من اللاعدل أن نطالب المجتمع بحقوق دون أن نعمل، إنه من اللاعدل أيضا أن نسيء معاملة العامل في عمله فنحرمه من الحرية والكرامة، إنه من اللاعدل أن نعمل في ظروف مشينة، إنه من اللاعدل أن نعمل مقابل أجر زهيد... ومن هذا المنطلق السالب يمكن القول أن العادل من وجهة اجتماعية هو ما يمنح لكلّ فرد إمكانية تحقيق مشروع وجوده أي ما يسمح بجعل الفرد شخصا مكتملا وما يؤمّن كرامته الإنسانية، وذلك ما تحيل عليه تحاليل راولس في نهاية المطاف، وهو ما يعني أن العمل يتموضع إلى جانب الحياة فأن نحرم أحدا من العمل هو أن نحكم عليه بالموت، الموت من الفقر أو الموت الرمزي الذي يصيب المستبعدين اجتماعيا. ولكن بأيّ معنى يكون العمل لا فقط شرط للعدالة الاجتماعية بل وأيضا ركيزة أساسية لها، ولنكون أكثر دقة لماذا نقرّ حقّ العمل؟
يجب أن نلاحظ أوّلا أن التشريع لحق العمل ضروري لأن العمل يحتل مكانة هامة في الوجود الفردي والجماعي في العصر الحديث، وأقول في العصر الحديث لأن العمل لم يكن كذلك في كل الأزمنة، ويكفي أن نذكر باللاتطابق بين العمل والمواطنة في العصر القديم الإغريقي كما الروماني لنتبين ذلك ففي الفكر اليوناني يتحدّد المواطنون كأناس أحرار وهو ما لا يتماشى مع وضعية الحرفيين لأن المؤسسة الارستقراطية تقصر الشرف على الأفاضل، ثم إن الديمقراطية المتسامحة تمنعه من الولوج لحقّ العمل لأن المواطنة تمارس في كامل الوقت في حين أنّ الحرفيين خاضعين للضرورة الحياتية حسب "أرسطو" وليس لهم الوقت الضروري لممارسة المواطنة، وهذا يعني أن الإقصاء في النظام الديمقراطي ليس مبدئيا ولكنه مؤسس على حجج غير متماسكة تتعلق بالقدرة العملية للنشاط السياسي، و"سيسيرون" في روما يقدّم حججا من هذا القبيل عندما يقول: "لاشيء شريف يمكن أن يصدر عن حانوت أو ورشة"، في حين أن ممارسة المواطنة هي عمل نبيل واللاتطابق من جهة الفعل عند اليونانيين تحوّل إلى لاتطابق من جهة الحق عند الرومان، وغدا العامل عبدا محتقرا. أما في العصور الوسطى فقد تطوّر وضع العمل نسبيا بتدخل الايدولوجيا الدينية ويمثل القرن 17 اللحظة التاريخية التي تحول فيها العمل كقالب للعدالة تحت تأثير الفكر الليبرالي الناشئ حيث أصبح العمل الأساس العادل للمجتمع سواء في المستوى الاقتصادي أو السياسي.
ففي المستوى الاقتصادي أصبح العمل مبدأ مشرعا للملكية و الثروة بعد أن كانتا في الفكر القديم حقا طبيعيا و إلاهيا. فبالنسبة للمدرسة الليبيرالية مع " جون لوك" John Locke إذا كان الله قد وهبنا الأرض لنتقاسمها فان العمل هو الذي يبرر ملكيتها من قبل من يعمل فيها, يقول "لوك" بعد أن تساءل عن أصل الملكية :«وواضح انه لو لم يجعلها الاقتطاف بادئ ذي بدء ملكا له لما جعلها شيئا آخر»، ففعل الاقتطاف كنشاط إنساني و بالتالي كعمل هو أساس الملكية و الثروة، و منها تكون العدالة إنصافا بما انه لكل إنسان بحسب أحقيته و جدارته. و جون باتيست ساي John-Baptiste Say يدقق بان إبداع النفع أي العمل بما هو خلق إنتاج ما، هو خلق للثروة إذ يقول " قد ازعم بان إبداع أشياء لها نفع ما، هو إبداع ثروات".
وفي المستوى السياسي، فإن نتائج مثل هذه الأطروحات، كانت حاسمة بما أنها ترسم، ولو نظريا، أفق إمكان مساواة على أساس أن العمل كقدرة، يمثل أعدل الأشياء توزيعا بين الناس. كما أنها تطرح عدة إشكاليات و مستجدات تتعلق بالديمقراطية و نظم الانتخاب و تطرح أيضا مخاوف من اللاعدالة من جراء تحول الملكية إلى معبود في المجتمعات الإستهلاكية و ما يرتبط بذلك من تناقضات اجتماعية و استتباعات أخلاقية. وهو ما يجرنا إلى السؤال عن الطريقة الأمثل للملاءمة بين قيمتين متطابقتين نظريا في حين يطرح ارتباطهما في المستوى العملي مشاكل عديدة.
إن الموقف الليبيرالي يبدو مفرطا في التفاؤل. فهذا الموقف ينطلق من مسلمة مفادها أن السوق هو الموجه الراعي للتوافق بين العمل و العدالة. إذ يمثل السوق شكلا من أشكال العدالة الإجرائية الكاملة، و لا يمكن أن تكون إنتاجاته إلا عادلة. و لأنه عادل فإن السوق ينتج العدالة من خلال ميكانزماته الخفية للانتظام الذاتي، ميكانيزمات يسميها آدم سميث بـ«اليد الخفية» التي تمثل فاعلا يحول المصلحة الخاصة بضرب من الارتداد إلى فائدة عامة، ذلك أن العلاقات الاقتصادية تجعل العامل يساهم بعمله في الاشتغال العام للمجتمع، و كل فعل إنتاج مهما كان خاصا ينخرط في منظومة علاقات السوق، ينخرط في علاقات متوسعة شيئا فشيئا، إذ نمر من الورشة إلى المعمل إلى المكتب...إلى الجهة...إلى الوطن...إلى السوق العالمي. و فريديرك حايك Friedrich Hayek يذهب إلى أبعد من ذلك بما أنه يعتبر أن كل تدخل خارجي في السوق سيكون وبالا على العدالة الاجتماعية و يولد نتائج معاكسة، ذلك أن العدالة التي تفرض من الخارج ليست إلا سرابا.
لكن هذا الموقف الذي كان هيوم David Hume قد نقده بالإستناد إلى مسلمته المركزية التي تفترض أن السوق عادل، عندما أعلن أن هذا الإقرار يؤدي إلى اختزال ما يجب أن يكون في ما هو كائن، هذا الموقف يسلم ضمنيا أيضا بكونية السوق. و لكن ما الذي يبرر هذه الكونية؟ هل أن صلاحية قانون العرض و الطلب سواء في شكله الكلاسيكي الذي يقر تناسب العرض مع الطلب أو في شكله الحديث الذي يعتبر العرض مولد للطلب، التي هي مبرهنة في النظام الاقتصادي هي كذلك في الأنظمة الأخرى؟ أليس النظام الاجتماعي هو نظام يقوم على الاتفاق و بالتالي له قوانينه الخاصة التي لا يمكن اختزالها في علاقات السوق؟ أليس الإقرار بكونية السوق مرادف إلى تحويل المجتمع إلى سوق؟ ألا تمثل كونية السوق الوجه الحقيقي للعولمة و النظام الجديد الذي تريد الشركات الكبرى فرضه على كل دول العالم بحيث تكون مصلحتها الخاصة أبينا أم كرهنا مصلحة عامة؟ | |
|