قيل :" ان الحقيقة نسبية" . ايد هذه الاطروحة .
طرح المشكلة :
يختلف الباحثون في تصورهم لمفهوم الحقيقة ، وفي ابرز المعايير التي تجعلها تتطابق مع الواقع . لذا شاع عند البعض ان الحقيقة اساسها الوضوح والبداهة اي الموضوعية ، في حين هناك من يعتقد بخلاف ذلك اي ان الحقيقة مقياسها النفع وبالتالي فهي نسبية ، وهذا ما نحن بصدد اثباته وتأكيده . فكيف يمكننا ان نثبت فعلا ان الحقيقة نسبية في طبيعتها ؟. وما هي جملة الأدلة والبراهين التي تأكد ذلك ؟
محاولة حل المشكلة :
عرض منطق الاطروحة :يرى انصار المذهب البراغماتي خاصة ان مقياس الحقيقة هو النفع وبالتالي فهي نسبية . ذلك لان الحكم يكون صادقا متى دلت التجربة على انه مفيد نظريا وعمليا ؛ وبذلك تعتبر المنفعة المحك الوحيد لتمييز صدق الاحكام من باطلها .يقول بيرس :" ان الحقيقة تقاس بمعيار العمل المنتج اي ان الفكرة خطة للعمل او مشروع له وليست حقيقة في ذاتها " . ويقول جيمس :" ان النتائج او الاثار التي تنتهي اليها الفكرة هي الدليل على صدقها ومقياس صوابها اذ اردنا ان نحصل على فكرة واضحة لموضوع ما " ويؤكد ايضا وليام جيمس بان الحقيقة لا وجود لها اذا انفصلت عن فعلها وهذا ما يجعلها نسبية لا مطلقة . حيث كتب يقول :" فما علينا الا ان ننظر الى الاثار العملية التي نعتقد انه قادر على ان يؤدي اليها والنتائج التي ننتظرها منه ورد الفعل الضار الذي قد ينجم عنه، والذي يجب ان نأخذ الحيطة بإزائه". ثم يقول : " ان كل ما يؤدي الى النجاح فهو حقيقي ".
عرض منطق الخصوم ونقده :
للأطروحة السابقة خصوم وهم القائلين بمقياس الوضوح اي " الحقيقة المطلقة" من امثال" ديكارت" و " سبينوزا " . ذلك لان الحكم الصادق يحمل في طياته معيار صدقه ، وهو الوضوح الذي يرتفع فوق كل شيء اذ يتجلى هذا في حقيقة البديهيات الرياضية التي تبدو ضرورية واضحة . كقولنا :" الكل اكبر من الجزء او الخط المستقيم هو اقصر مسافة بين نقطتين ". هذا ما جعل ديكارت لا يتقبل مطلقا شيء على انه حقيقة ما لم يتبين بالبداهة لذا قال :" لاحظت انه لا شيء في قولي : "انا افكر اذن ، انا موجود " يضمن لي اني اقول الحقيقة ، الا كوني ارى بكثير من الوضوح ، ان الوجود واجب التفكير . فحكمت بانني استطيع اتخاذ قاعدة عامة لنفسي ، وهي ان الاشياء التي نتصورها تصورا بالغ الوضوح والتمييز ، هي صحيحة كلها " . اني اشك كما يقول ديكارت : ، ولكن ما لا استطيع الشك فيه هو انني اشك والشك تفكير .
نقد منطقهم شكلا ومضمونا : لكن نلاحظ ان الكثير من الحقائق التي تجلت صحتها فترة من الزمن اثبت التفكير بطلانها ، لقد امن الناس زمنا طويلا ، بان الارض هي مركز الكون وبانها ثابتة تدور حولها سائر الكواكب ، ثم اثبت العلم خطا هذا الاعتقاد يقول بايي :" ان الافكار الواضحة البالغة الوضوح هي في الغالب افكار ميتة" . اذ لو كان الشعور بالوضوح كافيا لماذا تقابل الحقائق الجديدة بالثورة والرفض كما هو الشأن بالنسبة لغاليلي حينما اعلن ان الارض ليست ثابتة ، وهذا ما يثبت ان البداهة والوضوح لا يمكن لهما ان يكونا مقياسا للحقيقة مادام يتصفا بالحياة السيكولوجية الذاتية .
الدفاع عن الاطروحة بحجج شخصية : يمكننا ان ندافع عن الاطروحة بحجج جديدة وهي ما ذهب اليه الوجوديون خاصة مع سارتر ، حيث يرى ان مجال الحقيقة الاولى هو الانسان الُمشخص في وجوده الحسي ، وليس الوجود المجرد كما في الفلسفات الكلاسيكية ، وحقيقة الانسان هي في انجاز ماهيته ،لأنه في بداية الامر لا يملك ماهية ، فهو محكوم عليه بان يختار مصيره ، ولكن محكوم عليه بان يموت ، اذن كان عليه التركيز عن الحقيقة الاولى وهي ممارسة التجربة التي تجمع بين الحياة والموت وما ينتج عنهما من محن وقلق والم وثقل في المسؤولية .
التأكيد على مشروعية الاطروحة : الخاتمة" : وفي الاخير نستنتج ان الاطروحة القائلة بان " الحقيقة نسبية" اطروحة صحيحة في صيغها الفلسفي ونسقها يمكننا ان نتبناها وان نأخذ براي انصارها ، ذلك لكونها مشروعة ودفاعنا عنها امرا ضروريا.